محمود درويش
وما عسانا أن نكتب عن الشاعر محمود درويش ونحن نحاول أن نجمع ما نشره؟.. اخترنا ما كتبه الناقد الدكتور عادل الأسطة في موقع محمود درويش، حول قراءته (في حضرة الغياب) ... اضغط على الصورة وحمّل بعض أعمال شاعرنا الكبير.
كلما قررت الا أكتب عن محمود درويش، ألفيت نفسي أمارة بالكتابة. سأقرأ مراجعات لكتابه الأخير في الصحف، وسأقرأ بعض فقرات من الكتاب، نشرتها هذه الصحيفة أو تلك، وربما وجدت نفسي غير متشجع للكتابة عن >في حضرة الغياب<. سأحمد الله على ذلك، فلن يخبرني أحد على لسان الشاعر-ان كان ما قاله صحيحا-: أنْ كُفَّ عن الكتابة عنه. لقد ضجر الشاعر، هكذا روى لي شعراء آخرون، مما أكتبه عنه، لفرط ما كتبت ليس أكثر. فاذا كان بعض ما كتبته لم يرق له، فإن أكثر ما كتبت نال إعجابه، بخاصة ما أنجزته عن >جدارية<. سأقرأ >في حضرة الغياب< غير متشجع لأكتب عنه، أو هكذا سأدخل الى قراءته، ولكني سأجد نفسي قادرة على أن أنجز عنه مقالات مطولة، ربما تشبه ما أنجزته عن جدارية. وسأتردد، وربما سأتريث، ولكني لن أفوت الفرصة لكتابة دفتر ما، ولو موجز، وسيصدر الشاعر نصه ببيت شعر للشاعر مالك بن الريب: يقولون: لا تبعد وهم يدفونني وأين مكان البعد إلاّ مكانيا؟ وسيبعد درويش. سيعود الى طفولته المبكرة جدا. وليست هذه هي المرة الأولى التي يستحضر فيها الطفولة. لقد استحضرها، بايجاز وهذا ما يناسب الشعر، في >لماذا تركت الحصان وحيدا< (1995)، وها هو يعود ليستحضر ما لم يستحضره هناك، أو ليتوسع فيه هنا، وهذا ما يناسب النثر على أية حال، لا الشعر. سيبعد درويش، وهو يبلغ الآن السادسة والستين من العمر. سيعود الى ستين عاماً خلت ليقص عن طفولته الشقية، وليستحضر الغياب. سيكون درويش الآن في حضرة درويش الطفل ابن الخامسة أو السادسة، وفي حضرة أهله في ذلك الزمن. في حضرة أبيه وجده، وهنا ربما يتضح بعض دلالات العنوان. هنا سيتساءل المرء: من هم الذين هو في حضرتهم؟ أو قبل هذا السؤال: من في حضرة من؟ وإذا ما قرأ المرء اسم الشاعر مع عنوان الكتاب سيكون الجواب: محمود درويش في حضرة الغياب؟ وهنا سيثار سؤال آخر هو: من هم الغياب؟ ولن يعثر المرء على إجابة إلاّ بعد أن يفرغ من قراءة النص، وسيعثر على إجابات متعددة للسؤال: من في حضرة من؟ وأول هذه الإجابات هي: محمود درويش في حضرة محمود درويش، في حضرة محمود درويش، في حضرة محمود درويش…. الخ. ذلك أن الشاعر يستحضر مراحل مهمة ومؤثرة وفاعلة وغير قابلة للنسيان في حياته. وهو يدرك أنه مجموعة أنوات، لا أنا واحدة، وهكذا سيكون الشاعر الآن في حضرة نفسه طفلا، وفي حضرة نفسه يوم غادر فلسطين، وفي حضرة نفسه وهو في موسكو أو وهو في القاهرة أو وهو في بيروت، وسيكون في حضرة نفسه وهو في باريس على سرير الشفاء، وسيكون أيضاً في حضرة نفسه وهو في تونس. وهذا غيض من فيض. وثاني هذه الإجابات أن درويش سيكون في حضرة معين بسيسو واميل حبيبي. سيستحضر هذين لما شكلاه في حياته من معنى. الأول لأنه كان في الفندق، في ظرف غامض، في لندن واحتار الفلسطينيون أين يدفنونه؟- وهذا سؤال يؤرق درويش-، والثاني لأنه أراد ان يصفي معه حسابات لا ندري ما هي، فوعده وحين حان يوم اللقاء توفي إميل حبيبي في الفجر، وهكذا لم تكتمل فرحة العودة. وثالث هذه الإجابات هي أن درويش سيكون في حضرة أمه، حضرة حورية التي ربته وتركته يربي نفسه، وهذا ما عبر عنه درويش شعرا في قصيدته >في بيت أمي< التي تساءل فيها: أأنت يا ضيفي أنا؟ (هكذا سألت الصورة الضيف ابن الستين). غير أن النص يقول لنا: هناك آخرون يعيشون في غياب آخرين. فليس فقط درويش في حضرة دراويش عديدة. وفي حضرة فلسطينيين آخرين، غابوا وطواهم الزمن، وإنما سنجد (مناحيم بيغن) في حضرة غياب هم شهداء دير ياسين. في ص (71) يكتب درويش عن ولادة الفلسطينيين المتكررة على الرغم من المذابح التي تعرضوا لها، وهذا ما يؤرق ملك اسرائيل الجديد: > يتناول الملك أقراص المهدئ ويتذكر: لولا بطولتي، لولا ما فعلت بدير ياسين، لما قامت مملكتي. لولا الغياب، غيابهم، لما حضرت< (ص71). ويتابع: > أن لا يكونوا هو أن أكون< (ص71) وسيكون الغياب هنا هم شهداء دير ياسين، سيكونون في حضرة ملك اسرائيل الجديد (مناحيم بيغن). في تقديري لكتابي: >أرض القصيدة: جدارية درويش وصلتها بأشعار< قلت إنني أفكر في كتابة مقالة نثرية عنوانها: >أنا ودرويش: ثلاثون عاما من احتلال الشاعر لقارئه<. في حضرة الغياب يكتب درويش عن ستين عاما من احتلال ذاته له! لقد سبقني!! في حضرة جبرا وفدوى قبل أن أقرأ >في حضرة الغياب< فكرت أن أكتب هذه الزاوية عن فدوى طوقان وجبرا ابراهيم جبرا، ذلك ان الذكرى السنوية لوفاة كل منهما تدق على الأبواب. ورأيت ألا أفوت الفرصة، ولقد تذكرت فدوى وأنا أقرأ ما يكتبه درويش عن عودته الى فلسطين عبر الجسر. سأقرأ في الكتاب عن هذا: >لم تنم جيداً منذ وصلت الى رام الله من عمان قبل يومين، حيث وقفت على جسر اللنبي كأسير محترم بين جنود ينظرون إليك بفضول ثقيل، وينتظرون أوامر أخرى من أجهزة أمن أخرى للتأكد من أنك أنت أنت، لا آخر يتقمصك، وينتحل اسمك، ليجرب هذا الذل، ليكتب شعرا عن مراوغة الظل (ص150). > هُناك< على الجسر الذي لا نهر تحته منذ تعرضتْ مصادرُ مياهه للنهب، يتقشف الحلم، وتشحب صورة البلاد، ولا تكون أنت أنت< وسأتذكر مقطعا من قصيدة فدوى >أمام شباك التصاريح<، تأتي فيه على ذل وقفة الجسر: > فوق شباك التصاريح، عناوين/انتظار واصطبار/آه تستجدي العبور/ ويدوي صوت جندي هجين/لطمة تهوي على وجه الزحام: (عرب/فوضى، كلاب/ ارجعوا، ولا تقربوا الحاجز، عودوا يا كلاب)<. ولقد تذكرت جبرا، ودرويش يستحضر معين بسيسو. تذكرته وأنا أشاهد ما يجري في العراق. العراق الذي أنفق جبرا فيه من عمره اربعين عاما، بنى فيها هناك بيته في حي المنصور، وهذا ما أفاض في الحديث عنه في >شارع الأميرات< لأتساءل: ماذا جرى لبيت جبرا هناك. في "في حضرة الغياب"، حين يزور الشاعر قريته البروة، يكتب: "لا أثر للبروة"، على يمين الشارع القادم من الناصرة، غير صورتها في خيالك المطعون بقرون الثيران التي تمضغ وتجتر علف ذكرياتك<. (ص158). وكان درويش في >كزهر اللوز أو أبعد< أتى على ما فعلته الجرافة في المكان، وهو ما يأتي عليه أيضاً هنا، في >في حضرة الغياب<. وكلما شاهد المرء الدبابات الاميركية في العراق، أو كلما شاهدتها أنا على الأقل، تذكرت جبرا، وتساءلت: ماذا فعلت به الجرافات هناك. في حضرة الغياب يذكرنا أيضاً بغياب آخرين يجدر ان نستحضرهم.