من مقال للدكتور صلاح فضل :
يبني المبدع الكبير علاء الأسواني‏,‏ بهندسة فنية رائعة‏,‏ وإتقان شعري محكم‏,‏ واحدة من أهم الأعمال الروائية المعاصرة‏,‏ التي ستصبح كلاسيكية باستمرارها ماثلة في الذاكرة الأدبية‏.‏ وهي عمارة يعقوبيان الكفيلة وحدها بأن تضع مؤلفها في الصف الأول من كتاب اليوم‏,‏ بعد مسيرة إبداعية مضنية وخصبة ومتفاوتة‏.‏

يكشف علاء الأسواني في هذه الرواية عن قدرة عارمة علي تخليق العوالم الكبري‏,‏ وبراعة بارزة في رسم النماذج الانسانية الأصيلة‏,‏ وإضاءة المناطق الحميمة في جسد القاهرة الفاحش‏,‏ بجسارة فائقة‏,‏ تجسد ذبذبات الضمير الخفي في المجتمع المصري بأسره خلال العقود الماضية‏.‏ وهو يفاجيء القاريء ـ منذ الصفحات الأولي ـ باكتمال مشاهد الشخوص والأماكن‏,‏ واكتنازها بالتاريخ الشهي المثير‏,‏ حتي تبدو الكائنات والأشياء ـ وهي من صنع المتخيل الروائي ـ كأنها موجودة من قبل‏,‏ ماثلة هناك‏,‏ تنتظر عصا الفن السحرية كي تكشف النقاب عن حيويتها العارمة‏,‏ وعراقتها الغريبة‏,‏ وهشاشتها الواضحة في الآن ذاته‏.‏ يقدم لك مثلا نموذج زكي بك الدسوقي ـ وهو من أقدم سكان شارع سليمان باشا ـ جاء اليه في أواخر الأربعينيات‏,‏ بعد عودته من بعثته في فرنسا‏.‏ وهو يشكل بالنسبة لسكان الشارع شخصية فولكلورية محبوبة‏,‏ عندما يظهر عليهم ببدلته الكاملة صيف شتاء‏,‏ التي تخفي باتساعها جسده الضئيل الضامر‏,‏ ومنديله المكوي بعناية‏,‏ المتدلي دائما من جانب السترة بنفس لون رابطة العنق‏.‏ وذلك السيجار الشهير الذي كان أيام العز كوبيا فاخرا‏..‏ وجهه المتغضن العجوز‏,‏ ونظارته الطبية السميكة‏,‏ وأسنانه الصناعية اللامعة‏,‏ وشعره الأسود المصبوغ بخصلاته القليلة‏,‏ المصففة من اليسار الي اقصي يمين الرأس‏,‏ بهدف تغطية الصلعة الفسيحة‏.‏ ثم يقدم لك عمارة يعقوبيان الأرمني‏,‏ التي تفنن المهندسون الإيطاليون في زخرفتها‏,‏ وعشرات الحجرات التي أقيمت علي سطحها الفسيح‏,‏ وكأن العمارة عند علاء الأسواني قد حلت محل حارة نجيب محفوظ فجعلته يرسم لك لوحة زاخرة بالألوان والدلالات لحركة المجتمع المصري في موجاته المتعاقبة الثلاث‏:‏ ما قبل ثورة‏52,‏ وما بعدها حتي عصر الانفتاح في السبعينيات‏,‏ ثم ما أعقبه حتي زمن الرواية مطلع التسعينيات‏.‏ وذلك من خلال رصد تغيرات نوعية سكان العمارة‏,‏ من أرستوقراطيين الي ضباط جيش ثم رجال أعمال‏.‏

والمثير في هذا السرد أنه ينفذ عبر تجسيده لتحولات السكان الي دخيلة الضمير الوطني وما ظل يعتريه من توترات عميقة تحول دون الانسجام الحقيقي‏.‏ ولن نتوقف عند اغراء المشاهد الساخنة التي يفتتح بها الكاتب رسم العروق البارزة ـ النابضة بالشهوة ـ في جسد وسط المدينة‏,‏ عبر خبرة زكي بك العريضة في مقاسات النساء بكل مستوياتهن من ناحية‏,‏ ولا مجتمع سطح العمارة الذي يخفي بؤسه ويحقق وجوده بالجنس ويفاخر به من ناحية أخري‏.‏ ولكننا سنتوقف عند موقف سكان العمارة من طه الشاذلي ـ ابن البواب ـ الذي تفوق في دراسته وطمح الي أن يرتقي بعمله درجات‏,‏ حتي ظهرت نتيجة الثانوية العامة‏,‏ وحصل علي مجموع أكبر من أولاد الكثيرين في العمارة‏.‏ عندئذ بدأ المتذمرون يتكلمون علانية‏,‏ ويقول أحدهم إن ابن البواب قد يلتحق بكلية الشرطة ويتخرج ضابطا‏,‏ فيرد عليه آخر بأن مناصب الشرطة والقضاء والأماكن الحساسة ينبغي أن تقتصر علي أولاد الناس‏,‏ لأن أولاد البوابين والكوائين وأمثالهم لو أخذوا أي سلطة سوف يستعملونها في تعويض مركبات النقص والعقد النفسية التي أصابتهم في نشأتهم الأولي‏,‏ ثم ينهي حديثه بلعن عبدالناصر الذي استحدث مجانية التعليم‏,‏ أو يستشهد بحديث منسوب للنبي صلي الله عليه وسلم بالنهي عن تعليم أولاد السفلة‏.‏

يمزج الراوي التقليدي‏,‏ المحيط بكل شيء علما‏,‏ كما يقال في علوم السرد‏,‏ يمزج هذه الحوارات ويحكيها بأسلوب غير مباشر‏,‏ يقدم فيه رؤية الطبقة الوسطي المصرية‏,‏ التي ارتفعت بأساليب ملتوية الي مستوي سكان العمارة الطبقي‏,‏ بفضل مجانية التعليم التي يحملون عليها‏,‏ لكنهم يدعون الآن أرستوقراطية مكتسبة‏,‏ في مجتمع متحول سريع التغيير‏,‏ متعالين علي أصولهم القريبة‏,‏ ومنكرين علي من يقف في أول درجات السلم الاجتماعي أن يبذل جهده للارتقاء‏,‏ موظفين ما يتراءي لهم من اراء سياسية ومأثورات دينية لهذا الهدف‏,‏ الأمر الذي يشف عن التقلصات الخطيرة التي ما زالت تعوق الطبقات المحرومة من التطلع الي حقوقها المشروعة بالوسائل الصحيحة‏,‏ ويفتح الباب لما سوف تزخر به الرواية من عرض لأشكال الإحباط والقمع والعنف والتسلل والانتهازية التي يمتليء بها مجتمع اليوم‏.‏

إضغط على الصورة للتحميل