0
Home  ›  شعر

محمود درويش..الاعمال الكاملة




سلسلة اللقاءات التي اجراها عبده وازن، الشاعر والكاتب اللبناني، مع الشاعر الكبير محمود درويش العام الماضي صدرت في كتاب عن دار رياض الريس في بيروت ومشفوعة بقراءات نقدية لاعمال درويش الاخيرة محمود درويش: الغريب يقع علي نفسه ، اللقاءات والمقالات هي محاولة جديدة للدخول في عالم محمود درويش الشعري، حياته وحياة القصيدة، ونشأة وتربية القصيدة التي لا تولد بدون معاناة ومخاضات، فالسلاسة اللغوية وغني المعجم وتدفقه لا تعني في النهاية عفوية الكتابة، فالقصيدة تبدأ بسطر يتدفق بصورة عفوية وثرية وتلد القصيدة التي تتعرض لمرحلة من المراجعة واعادة الكتابة والصياغة والتعديل وعندما تنشر في ديوان او صحيفة تخرج من عهدة الشاعر وتصبح ملكا للقارئ.

ما تكشفه اللقاءات هي ان شاعرنا الكبير يعود الي اعماله الاولي يشذبها ويتخلي عن بعضها ولكنه لا يعلن انفصامها عنه او يتبرأ منها، وهو اعتراف بأن هناك مسافة بين قصيدة وقصيدة وحياة للشعر، مما يعني ان تحقيب الشاعر او ربطه بزمن شعري خاص ظلم له، فالذين لا يزالون يتحدثون عن شاعر المقاومة وقصيدة سجل انا عربي الخطابية التي جاءت نتاجا للحظة تاريخية معينة يظلمون الشاعر الذي وان لم يتخل عن خطابية القصيدة وبلاغتها الثورية في لحظتها الخاصة لا يريد ان يظل شاعر المقاومة في زمن تغيرت فيه المقاومة، وتراجعت بلاغة هذا الشعرمنذ اجتياح لبنان 1982 ولم يعد هذا الشعر قادرا علي التواصل بغنائيته وبلاغته الثورية مع الواقع المعاش خاصة ان الثوري الذي عاش في المخيمات ومعسكرات التدريب عاد للوطن ولم ير الجسد والروح اللتين كان يحلم بهما.


في لقاء عبده وازن مع درويش محاولة لاشعال السجال القديم الجديد، حول القصيدة العربية والريادة والجيل الثاني من الشعراء ومحاولة لـ حشر الشاعر في زاوية لدفعه لبيان او تصريح حول قصيدة النثر، اهميتها في مجال الابداع العربي وقيمتها الفنية وشرعيتها، وان كانت الشكل الاخير في مرحلة الابداع الشعري العربي خاصة بعد الثورة علي الاوزان الخليلية وتراجع الكلاسيكية الجديدة وولادة قصيدة التفعيلة الا انها اي قصيدة النثر ليست الشكل الاخير بمعني انه نهاية التجريب في الشعر والشعرية العربية.

محمود درويش اكد اكثر من مرة انه ليست لديه مشكلة مع قصيدة النثر، ولا مع النثرـ يكتب النثر ويبدو درويش عندما تقرأ اعماله النثرية ناثرا اكثر منه شاعرا وعندما تقرأه كشاعر يبدو اكثر من ناثر، ويعترف درويش ان قصيدة النثر كسبت معركتها من اجل الشرعية ولكنه اثار الانتباه الي ان تيار القصيدة او بعض ممثليه يريدون جعل القصيدة الشكل السائد، درويش يدعو لديمقراطية في الشعر، شعر تختفي فيه التصنيفات ويدمج الاجناس الادبية فيما بينها، وهو في هذا السياق يقول انه يكتب نثرا ولكنه يرفض ان يسميه قصيدة نثر لانه ضد التصنيفات التي تقيد الشاعر في شكل من الاشكال، وهو يدعو الي الانفتاح في الحكم علي اعمال الاخرين، ويعتقد ان اي قائمة لاهم ما كتب في العقود الاخيرة من شعر عربي ربما تكون من نصيب قصيدة النثر ولكن هذا لا يعطيها او يعطي ممثليها الغاء الاشكال الأخري فكما كانت مجلة شعر رائدة في دفع وتقديم قصيدة النثر كانت مجلة الآداب رائدة في دعم الشعر الجديد او قصيدة التفعيلة. ولا ينكر الشاعر هنا ان قصيدة النثر تتوفر علي الايقاع مثل قصيدة التفعيلة، ايا كان الايقاع بقول داخلي او عالي النبرة المشكلة في كيفية ضبطه او دوزنته كما تضبط العود او الوتر الموسيقي لانتاج اجمل الالحان.

درويش يبدو في اللقاءات كرجل يبحث في أدواته القديمة يقلبها يشذب التجربة ويحاول اجتراح اساليب جديدة في التعبير، سرد سيرته عبر الشعر والتنظير للشعر بالشعر. وهو بهذه المثابة شاعر يقف علي تخوم الكلمة ينهي عملية ولادة ويتحرر من المولود سواء كان قصيدة او ديوانا ليعود الي رحلة البحث، ما يثير في حديث درويش هنا انه كلما كبر زاد خوفه من النهاية، يقول انه لم يعد يخشي الموت بعد ان واجهه ولكن ما يخشاه هو التوقف عن الكلام، وهنا تجادل حقيقي بين الموت ومواصلة التجربة، هو مصمم علي المضي، مع اعترافه بان الشاعر يشيخ وما قاله في الامس قد لا يستطيع قوله اليوم او غدا، ولكن ما يميز درويش عن غيره من الشعراء هو انه يطمح دائما لتفجير اللغة واخذها لمداها الاوسع، وفتحها امام فضاءات واسعة، فضاءات تخترق العادي وتخوض في الميتافيزقي، يقول ان احدي هواياته هي فتح لسان العرب، المعجم وقراءة تاريخ كلمة بشكل عشوائي ويقرأ تاريخ الكلمة وسلالتها. واهتمام درويش بالمعجم اللغوي واغناء معجمه الشعري لا يعني في النهاية شعرا صعبا ومتقعرا فالكلمة تأخذ حياة جديدة وشكلا جديدا، الانطباع الذي يخرج منه قارئ مقابلات درويش انه امام شاعر يقرأ ويتعلم ويعترف بقصوره وان هناك مجالا للتطوير والتنويع والقراءة التي هي زاد الشاعر والتجربة، وكلما قرأ واثري تجربته ووسع مجاله واحكمته تجربة السنين زادت حكمته وليست فلسفته، فالتفلسف في الشعر مخاضه عسير وكل الذين تفلسفوا نسي شعرهم وتفوق نثرهم علي شعرهم. استمرار التعلم هو جزء من وعي الشاعر بانه لم يكن تلميذا علي شيخ، قرأ اعمال الشعراء من الجيل الذي سبقه وتأثر واغرم باشعار هذا وذاك ولكنه يتحسر انه لم يكن له شيخ يعلمه ادوات الشعر وسر الصنعة.


يكشف محمود درويش عن سر نضارته الشعرية، والتي كلما كبر ازدادت طراوة، وهي احساسه بكل عمل يصدره بانه البداية، فهو يقول انه لا يصدق شعره وانه بحاجة دائمة للغة شعرية، والسر الاخر في انسياح مداه الشعري، وقدرته علي التفتيق والابداع ينبع من انه مثلما لا يصدق شعره عدم الرضي ، لا يصدق التصفيق ويعرف ان الاحتفاء العام او المضافة هي آنية تقارب نهايتها. درويش هو شاعر يحب الخوض في اللامتخيل او اللامفكر فيه المجهول الذي يعطيه قصيدة قادرة علي اختراق مداها الزمني، انه يبحث عن القصيدة الخالدة التي تختصر زمنها والزمن الذي يليه، تماما كما اختصر او يختصر شعر المتنبي مسيرة الشعر العربي في حاضره وماضيه. امام كل تجربة شعرية او انتهائها يجد درويش نفسه امام تجربة جديدة تتساءل عن المغامرة القادمة. وكأني اشعر ان درويش يريد مد القصيدة الي زمنها الابعد، تماما كما حاول الرحالة البريطاني المعروف ويلفريد ثيسجر وهو يسير نحو الربع الخالي، امتحان القدرة الانسانية وآليات التحمل عند الانسان في ظروف الصحراء القاسية التي صنعت العربي وصنعت قصيدته. يشير النقاد دائما الي فكرة السلالة في اعماله، اي ان كل عمل يولد عملا اخر في متوالية دائمة، وهو ما يشير الي تطور الشاعر الذي يري ان من حقه تشذيب كتاباته الاخري ولكن لا يحق له ان يقوم بتغييرها، فهو يشير الي ان ديوانه الاول عصافير بلا اجنحة ليس مهما وهو سعيد ان النقاد خارج فلسطين المحتلة لم يعرفوا عنه او يقرأوه لانه عمل كتبه وهو في نهاية المرحلة الدراسية، ولكن الشاعر هنا لا يتحدث في علاقة اعماله الجديدة باعماله السابقة او ديوانه الاخير بالذي سبقه يتحدث عن رغبة دائمة في اعادة تعريف الشعر.

ابراهيم درويش

إضغط على الصورة لتحميل الكتاب
إرسال تعليق
Search
Menu
Theme
Share
Additional JS