0
Home  ›  قراءة في مدوّنة

"كلنا ليلى" : قراءة فى مدونة نسائية جماعية



"بدأت فكرة "كلنا ليلى" بليلى/ واحدة منا تشكو وتبوح لـ"ليلى" أخرى ليزيد العدد إلى ثلاثة فخمسة فأكثر من خمسين فتاة وسيدة، لنكتشف أنه على اختلاف خلفياتنا وأفكارنا وأولوياتنا كلنا في النهاية ليلى."

شهد الواقع السياسي المصري في العام والنصف الماضيين حراكا سياسيا من نوع خاص ناتج عن مفارقة فريدة بين نظام يبذل جل جهده في الإيحاء بزيادة مساحات الحرية، ونخب ومجموعات عمل مدنية لا تكتفي بالإيحاءات وتعمل على إلزام النظام بإصلاحات حقيقية. بالتالي كثرت حركات "من أجل التغيير" المطالبة بحريات أكبر في مجالاتها المختلفة، والتي تعمل من أجل تحقيق مصالحها، وتربط ذلك - بشكل أو آخر- بضرورة التغيير في السياق العام بأكمله بالضغط لتحقيق ديمقراطية حقيقية. في ظل هذه الحالة من الحراك والتفاعل ازدهر دور المدونات كوسيلة للتعبير عن الهم السياسي العام. والمدونات هي صفحات شخصية بحتة من السهل جدا الحصول عليها من مواقع تقدم خدمة استضافة المدونات، ومن مميزاتها العديدة إتاحة مساحة خاصة للتنفيس والتعبير عن الأفكار والمشاعر المختلفة، مع إمكانية استقبال تعليقات زوار المدونة، وبالتالي قد تساهم هذه الخاصية في فتح نقاش حول المحتوى المكتوب أو حتى وضع تعليق بسيط بدون اسم يفيد بأن شخصا آخر في هذا العالم قد مر بنفس هذه التجربة أو يشعر بالامتنان لوجود من يشاركه نفس الآراء أو الأفكار.

لذلك ينطوي اعتبار المدونات في عمومها حركة سياسية مغالطة كبيرة، فالمدونات تعكس طيفا من الاهتمامات والتجارب الشخصية التي لا يمكن حصرها في السياسة فقط، كما أنها وُجدت بالفعل قبل فترة الحراك السياسى الأخيرة - ولو بأعداد قليلة. ولكن نشاط عدد من قدامى المدونين في العمل الأهلى واهتمامهم بالواقع السياسي ومشاركتهم في المظاهرات والوقفات الاحتجاجية وتغطيتها، بل والتعرض للاعتقال بسببها كما حدث في اعتصامات التضامن مع القضاة، ساهم أيضا في نشر الاهتمام بالشأن السياسي في المدونات، مثلما ساهم في توجيه اهتمام الإعلام للمدونات، حتى أصبحت مكانا مهما لالتقاء عدد لا بأس به ممن ينتمون للأغلبية الصامتة ونمو نوع من الألفة الافتراضية بينهم.

في إطار هذا الشعور بالألفة والعمل من أجل المصالح المشتركة جاءت فكرة يوم "كلنا ليلى". اعتمدت فكرة يوم ليلى على طرح إنساني بسيط: إذا كنا كإناث نعاني من أوضاع متخلفة في المجتمع، ومن نظرة دونية نراها في عديد من المواقف، إذن لنطرح القضية أولا من وجهة نظرنا لنتحاور بشأنها. فوجود الخطاب الإعلامي الذي يوحي برعاية الدولة لصعود المرأة وترقي أحوالها، إلى جانب انحدار قيمة الإنسان في بلادنا وتدهور الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، يوحي بأن الأوضاع التي لا تعجبنا كإناث أوضاع عامة يعاني منها أغلب المصريين كنتيجة لسيطرة نظام لا يراعي احتياجات وحقوق الإنسان الأساسية. لكن هذه المغالطة تتجاهل نوعا آخر من الظلم يقع على المرأة، لا علاقة له بالمؤتمرات النسائية الحكومية ولا بالأوضاع المتردية العامة، فهو مرتبط أساسا بموروث ثقافي متغلغل في سلوكيات المجتمع لدرجة أصبحت تبدو طبيعية وعادية وماعداها غريب، بل ومستورد من الخارج. فيوم ليلى ليس موجها ضد الرجل، إطلاقا، ولكن ضد المجتمع – إناثا وذكورا- وما يفرضه من أفكار وقيود مسبقة على الأنثى، فقط لأنها أنثى.

ولأنه من الطبيعي ألا يرى الإنسان الواقع وتحدياته إلا من خلال وجهة نظره وعن طريق ما يتاح له من معلومات أو تجارب يعيشها، كانت الفكرة ببساطة هي عرض القصة من وجهة النظر الأخرى، عرض التجربة الإنسانية من وجهة نظر فتاة أو سيدة كما تراها أو كما عاشتها. كان الهدف أن نتيح الفرصة لأكبر عدد من الإناث على المدونات للتحدث بصوت مسموع عن تجاربهن الشخصية، فدائما ما تواجه أي أنثى تتحدث عن اضطهاد أو ظلم ما بادعاء "إنها حالة فردية" وأنه "لا داعي للمبالغة". إذن فلنر ماذا ستقول المدوِّنات إذا تحدثن عن تجاربهن كإناث في يوم واحد: هل يشعرن بظلم فعلا؟ هل هناك ما يتمنين تغييره؟ هل هناك وسيلة لتغييره؟ هل ساهم المجتمع في تشويه صورتهن عن أنفسهن؟

بدأ تنظيم يوم "كلنا ليلى" من قبل خمس مدوِّنات، شاركن في اختيار اسم اليوم وحشد باقي المدونات الإناث ودعوتهن للمشاركة وعمل مدونة خاصة اسمها "كلنا ليلى" تعرف باليوم وهدفه وتوثق ما كتب في هذا اليوم وردود الفعل عليه.

كانت أول مشكلة واجهتنا اختيار اسم لليوم، شخصية تصلح لأن تكون رمزا لافتا ومعبرا عما نهدف له من اليوم. كان الاختيار الأول اسم "نورا" بطلة مسرحية هنريك إبسن الشهيرة "بيت الدمية"، والتي كانت من أوائل المسرحيات التي لفتت لأهمية المرأة كإنسان له كيانه المستقل في العالم الغربي. لكننا فضلنا أن يكون الرمز نابعا من تراثنا المصري اعتزازا وإيمانا به وباحتوائه على نماذج تشبهنا من جهة، وبعدا عن التهم الكريهة المتعلقة بالعمالة للغرب والترويج لأفكاره، والتي يستخدمها البعض للمصادرة على أصوات وأفكار البعض الآخر دون تروٍ أو تدبر. وبالفعل وقع الاختيار على "ليلى"، وهي ليست "ليلى" حبيبة قيس، ولكن "ليلى" بطلة رواية لطيفة الزيات "الباب المفتوح". فهي فضلا عن كونها شخصية تنتمي للواقع المعاصر، ومعروفة بحكم أن الرواية قد تحولت لفيلم جميل بطولة فاتن حمامة، هي كذلك – كما جاء على موقع كلنا ليلى - "نموذج للفتاة المصرية التي تتعرض لمواقف حياتية مختلفة في مجتمع يعلى من شأن الرجل ويقلل من شأن المرأة، ولا يهتم بأحلامها أو أفكارها أو ما تريد أن تصنع في حياتها. ومع ذلك فقد استطاعت ليلى التي تعرضت منذ طفولتها لأشكال مختلفة من التمييز أن تحتفظ بفكرتها الأصيلة عن نفسها وتظل مؤمنة بدورها كامرأة لا تقل أهمية بأي حال من الأحوال عن الرجل، سواء في البيت أو في العمل أو في الدراسة أو في العمل العام".

ثم بدأت مرحلة الحشد، وهنا واجهتنا بعض التساؤلات عن المرجعية التي تحكمنا: هل هي دينية مثلا؟ أم تنتمي لحركة أو اتجاه نسوي معين؟ الحقيقة أن ما جمعنا منذ البداية لم يكن مرجعية دينية أو اتجاه نظرى، ولكن شعور مشترك بنظرة المجتمع لنا على أننا "قطع ناقص"، لا إنسانا مكتمل النمو والعقل له قراراته واختياراته التي يجب احترامها، مهما بدت متعارضة مع مفاهيم المجتمع عن دور الأنثى وصفاتها والحدود المرسومة لها. إذن هي مرجعية إنسانية وفقط، يمكن أن نلتف جميعا حولها والمطلب الوحيد هو الحصول على حرية أن نكون أنفسنا بأفكارنا واتجاهاتنا المختلفة. فربما نختلف فيما بيننا على شكل هذه الحرية، ولكن كان هناك اتفاق على أهمية أن تعبر كل ليلى عن رؤيتها للحرية وحقها في الحصول عليها بغض النظر عن رأي أي إنسان آخر في مفهومها الخاص عن هذه الحرية.

اتجاهات:

شاركت حوالي سبعين مدوِّنة مصرية في يوم "كلنا ليلى". وكما كان كمّ المشاركة والتجاوب رائعا، عكست التدوينات تنوعا ثريا ومبهرا في طرق التفكير وزوايا تناول الموضوع وعرضه بأشكال فنية وتيمات مختلفة، فمن رسالة كتبتها "فريدة" لابنتها التي لم تأت بعد، لمحاكمة تخيلية لـ"مرسي" - كرمز للرجل المستبد – من نساء من مختلف الأعمار والخلفيات الثقافية في شكل كوميدي فذ يثير الضحك والتفكير في آن واحد بقلم "Epitaph"، لتخيل "بنت مصرية" لأول لحظة خرس وانقطاع للتواصل بين الرجل والمرآة منذ بدء الخليقة، لرصد "حلم" عن تحول الزواج لصفقة شراء ببنود موثقة في عقد الزواج يوافق عليها البائع والشاري في تواطؤ صامت. هذا بخلاف أشكال متعددة من البوح، سواء في شكل مقالات بالفصحى أو العامية، أو حوارات حقيقية أو متخيلة، أو تجميع لمتفرقات ومشاهدات مختلفة تحت عنوان واحد.

تناولت التدوينات مواضيع متعددة تتراوح بين ما تواجهه السيدات من معاناة في المجال العام كالشارع وأماكن العمل والتعليم، والمجال الخاص في المنزل مع الزوج أو الأسرة (سواء مع الأب أو الأم أو الأخ). وحتى تلك المساحة الحميمة من أنفسنا التي نلوذ بها عندما يضيق علينا الفضاء الخارجي بما رحب لم تخلُ من رقيب داخلي تكوَّن بتراكم تجارب العيش في مجتمع لا يفهم معنى الحرية الشخصية، خاصة لو تعلقت بأنثى.

مثلا تحدثت "لمياء محمود" و"Me" عن المضايقات السخيفة التي تتعرض لها الإناث لمجرد الخروج للشارع وفي المواصلات العامة، وكيف أنها في تزايد مستمر. وذكرت "دنانير" - في تدوينة متنوعة تعرض لأشكال مختلفة من معاناة المرآة بعنوان "منكوشة الروح" - تحول هذه المضايقات لشكل أكثر تطرفا ووحشية من التحرشات، عندما سردت قصة فتاة اختطفها سائق تاكسي وتحرش بها وهو يطمئنها أنه من الشهامة بحيث يحفظ لها عذريتها، متجاهلا عمق الجريمة التي يرتكبها. وجاءت هذه التدوينات في سياق مهم استفادت فيه - وأثيرت- مجموعة من التدوينات السابقة على يوم "ليلى" تحدثت عن المعاكسات وأسلوب مواجهتها بشكل ساخر، كما جاءت حوادث تحرشات وسط البلد في عيد الفطر لتؤكد ما جاء في هذه التدوينات.

أما "شيماء" فتحدثت في تدوينة بعنوان "التفرقة العنصرية" عن التفرقة بين الطالبات والطلاب في أماكن التعليم وسردت تجربتها الشخصية في التعامل مع نموذجين مختلفين لأستاذ الجامعة. فبينما كان أحدهما يرى ضرورة أن تنزل بنفسها لمواقع العمل والتدريب - كمهندسة معمارية – مثلها مثل أي مهندس آخر، وألا تتكئ على كونها أنثى، بل ويعنفها إذا أهملت في ذلك، كانت أستاذة أخرى تفرض على البنات شغل مكاتب على الكمبيوتر وترفض طلبهن النزول لمواقع التدريب معلقة "فاكرين نفسكوا رجالة"!!!

تتقاطع قصة "شيماء" مع مفهوم ودراسات "الجندر Gender" أو النوع الاجتماعين في معناها الأصلي غير المتطرف أو المشوه، حيث تتناول تأثير المجتمع وثقافته على تنشئة البنات والأولاد منذ الصغر وعلى اختلاف معايير التعامل مع الذكر عن الأنثى، وكيف يؤثر ذلك على السلوك وطرق التفكير. في هذا الإطار شكل كم الازدواجية الذي يتعامل بها المجتمع مع الذكور والإناث محورا مهما دارت حوله العديد من التدوينات. حيث تحدثت "فريدة" في رسالتها لابنتها المتخيلة عن تفريق المجتمع بين "الخطأ الذكوري" الذي يمكن التغاضي عنه والتسامح فيه على أنه حب للتجربة ورعونة شباب، و"الخطأ الأنثوي" الذي لا يغفره المجتمع ويقف لمرتكبته بالمرصاد. وتبنت "فريدة" مرجعية دينية في نقدها لنفاق المجتمع في تعامله مع الرجل والمرأة في مسائل الخيانة الزوجية مثلا. فبرغم توحيد عقاب الزاني والزانية في القرآن الكريم، إلا أن المجتمع ينظر لخيانة الرجل كنزوة أو خطأ عابر، بينما يعتبر خيانة المرأة جريمة لا تغتفر. كذلك تبنت "زنوبيا" نفس المرجعية في تدوينتها "ثورة الحريم في القرن الواحد والعشرين" لتستنكر تأخر حصول المرأة على حقها في الخلع – والمكفول منذ أربعة عشر قرنا – إلى السنوات الأخيرة فقط. كذلك ترفض حصر حرية المرأة في حرية العري مثلا، لأنها تسجن المرأة ودورها في إطار الجسد فقط وتنزع عنها نواحٍ إنسانية أخرى. وفي معرض الحديث عن المرجعيات، قدمت "Blue Stone" مقارنة بين أوضاع ليلى الحالية ومكانتها في مصر الفرعونية لتعكس ما أصاب هذه المكانة من تدهور في العصر الحالي.

أما "بطابيط" فانتقدت ازدواجية المجتمع من منطلق آخر، حيث يعطي الرجل الحق في الخروج وحرية الحركة والسفر بشكل مطلق ويُنظر للسيدة التي تحاول الحصول على نفس الحق نظرة اتهام وإدانة. وبالفعل كان مطلب حرية الحركة قاسما مشتركا في العديد من التدوينات، كوسيلة للتعرف على ما يحدث حولنا وتحصيل العلم والثقافة وإثراء خبرتنا وتجربتنا بالعالم بشكل عام، خاصة أن المضايقات والتحرشات السخيفة، والتي تتخذ كذريعة للحد من حرية الحركة، يجب أن يتم التعامل معها بشكل مختلف عن معاقبة الضحية وإلزامها المنزل أو مواعيد خروج ودخول استبدادية. فهي مشكلة تتعلق أولا وأخيرا بمجتمع لا يدين هذه المضايقات بشكل كافٍ ودائما يلقي بجزء من اللوم على الفتاة.

ولفتت "بطابيط" الانتباه لنقطة مهمة، فهذه النظرة نظرة مجتمعية عامة ليست خاصة بحكم يطلقه الرجال على السيدات، فدائما ما تسمع الفتيات يلُكن سيرة فتيات مثلهن فقط لأنهن حاولن كسر القيود التقليدية والتمتع ببعض الحرية. كذلك ينظر المجتمع دائما لأي سيدة تأخرت في الرجوع للمنزل على أنها منحلة، وأنه لابد من وجود ما يشين وراء هذا التأخير. وفي نفس الموضوع كتبت "إنجي" تدوينة - على شكل حوار باللغة الإنجليزية – عن رفض من حولها خروجها – أو خروج بطلة تدوينتها – للذهاب لمقابلة عمل قد تكون فرصتها الوحيدة في الحصول على وظيفة إلا بصحبة أحد ذكور العائلة. ولأن وقت أي منهم لا يسمح، لا تذهب للمقابلة وتفقد الوظيفة.

من المحاور المهمة التي دارت حولها التدوينات المرأة والزواج، فتناولت مثلا نظرة المجتمع للفتاة غير المتزوجة على أنها إنسان غير مكتمل الأهلية. فجميع أحلام السفر مؤجلة حتى الزواج كما تقول "إني راحلة". أما "برايد" صاحبة مدونة "عايزة أتجوز" والتي تتناول نماذج العرسان المتقدمين لها في شكل كوميدي، فخرجت عن خط المدونة الرئيسي لتكتب في يوم "كلنا ليلى" عن طرق تربية المجتمع للفتاة وتنشئتها على أن مصيرها الزواج، في ظل أزمة اقتصادية يعاني منها الشباب والمجتمع ككل تؤخر الزواج وتمنعه أحيانا، وما يترتب على هذا من إحباطات مستمرة للفتاة إذا لم تتزوج، ويجبرها في كثير من الأحيان للخضوع لشروط زواج مجحفة لمجرد أن تهرب من ضغط الأسرة ونظرة المجتمع لها ولقب "عانس". كذلك تحدثت "Blue" صاحبة مدونة "لست أدري" – وصاحبة فكرة يوم ليلى – عن استنكار أحد قريباتها للفكرة ونصيحتها لها أن تتخلى عنها لأنها "ستوقف سوقها" بهذه الطريقة، وتساءلت عن هذا السوق وفكرة البيع والشراء والعرض والطلب المسيطرة على مفاهيم الزواج في الوقت الحالي.

أيضا تحدثت المدونات عن القوالب التي يتم سجن شخصية الفتاة في حدودها على أنها شخصية المرأة "الطبيعية" أو "الحقيقية" أو "المثالية" والتي غالبا ما تحددها نظرة محدودة للفتاة لا تعترف بها كإنسان، بل كتابع تتحدد معالم شخصيته طبقا لما يريدها زوج المستقبل. مثلا كتبت "دعاء سمير" عن "نظرية البسكوت بالفانيليا والشطة"، حيث انتقدت تعميم صورة المرأة شديدة الرقة والهشاشة – كالبسكويت- على جميع النساء. فلا يجب أن يناقشن أو يجادلن أو يظهرن ذكاءً زائدا عن الحد، وإلا انتقصن بذلك من أنوثتهن التي تقضي بأن يكن مهيضات الجناح باستمرار في انتظار حماية الرجل والتوكؤ عليه. كذلك كتبت في مدونتي –باسم "أرابيسك"- عن معاناة الأنثى المختلفة معاناة مزدوجة، فدائما ما توضع في منطقة رمادية وتفرض عليها مآزق تحديد هوية تفكيرها: هل هو ذكوري أم أنثوي، وكأنه لا يمكن أن يوصف كبشري فقط. كذلك كتبت "نيرفانا" عن معاناة الأنثى المثقفة في المجتمع الشرقي، في مشاهد من حياة "ليلى" قبل الزواج وبعده وطرق تعامل نماذج مختلفة من الآباء معها.

وفي مفارقة لافتة تحدثت بعض التدوينات عن حال المرأة المتزوجة لتكشف أنها ليست أفضل حالا أبدا من غير المتزوجات، فالمسئوليات أكبر والأعباء أثقل ودائما ما تُلقى على عاتق الزوجة مسئولية الصبر والتحمل والحفاظ على تماسك المنزل، مثل مقال "بُعدك على بالي" عن الخرس الزوجي وأسبابه. كذلك سردت "أوسة" أحداث يوم في حياة سيدة متزوجة في مواجهة "حنفي" وأمثاله الذين لا يألون جهدا في إحباطها والتسفيه من عملها في شكل كوميدي ساخر. ولم يقتصر الكلام على الإناث اللاتي ينتمين للطبقة المتوسطة ويعشن في المدينة فقط، بل اهتمت كل من "نومينوس هانم" و"Rose" بعرض قصتين مختلفتين واحدة من ريف مصر والأخرى من صعيدها لتلقيا الضوء على وضع المرأة في المناطق التي تتمتع بنسبة أقل من الوعي والتعليم وكيفية إتمام زواجها دون السن أحيانا وبدون موافقتها أحيانا أخرى. كذلك تناولت "Blue Rose" قصة أم عماد التي تعول أولادها في ظروف صعبة وتقف حائرة بين فريقين يحلو لهما التحدث باسم المرأة والدفاع عنها، وهما أساسا لا يعرفان مشاكلها الحقيقية ولا يصلحان إلا للاستهلاك الإعلامي فقط.

أما المحور الأخير فألقى ضوءا مهما على منطقة أكثر عمقا من الأزمة ربما لا يلتفت إليها الكثيرون، وهي نمو "الرقيب الداخلي" الذي يمنع ويردع ويمسك بزمام الأمر، حتى قبل إعطاء العقل فرصته في التفكير والحكم على الأمور بشكل موضوعي. يخلق تغلغل معايير المجتمع في الحكم على الأشياء في عقولنا، مع غياب عقلية نقدية ترى هذه المعايير على حقيقتها، لا وعيا جمعيا يوافق عليها ويعيد إنتاجها. وبالتالي يتم توريثها من أم لابنتها، ويستمر المجتمع يدور في دائرة مفرغة من القهر وإعادة إنتاجه. مثلا قامت "شغف" بتجميع المقولات والتعليمات الشائعة التي تسمعها الفتيات بشكل دوري لتلقي الضوء على تناقض هذه التعليمات فيما بينها وتنصح في النهاية بتجاهلها جميعا لصالح تكوين فكرة أصيلة عن نفسنا ومجتمعنا بعيدا عن الأفكار المسبقة. أيضا كتبت "سوسة المفروسة" تدوينة بعنوان "الإشارة حمرا" تعرض فيها لمواقف متعددة من حياتها أعملت فيها الرقابة الداخلية قبل أن تطبق عليها من الخارج، وليكن بيدي لا بيد عمرو.


"ليلى" فى ساحة الحوار

ظهرت جميع هذه التدوينات وغيرها في يوم "كلنا ليلى" في 9 سبتمبر الماضي، وبالفعل أحدثت حركة وتفاعلا كبيرين على مستوى المدونات. ربما كان أكثر ما ميز مبادرتنا أنها لم تأت فوقية أو مستندة إلى اتجاه نظرى معين، بل جاءت من أفواهنا مباشرة دون وسيط يتحدث عنا، وجاءت معبرة عن اتجاهات عديدة تتلاقى في نقطة واحدة، هي المطالبة بحقنا في العدل والحرية. وبالرغم من انتقاد البعض لنا لغياب أجندة واضحة تحكمنا، إلا أننا اعتبرناها نقطة قوة في مواجهة من وصمونا بتبني أجندة غربية أو اتباع رموز بعينها.. نقطة قوة تمكنا من فتح حوار حقيقي دون أفكار أو حساسيات مسبقة، وكتابة أجندة جديدة تنبع من ثقافتنا ورؤيتنا لأنفسنا وما نراه مهدرا من حقوقنا طبقا لمقاييس العصر. وبرغم تشجيع مدونين ذكور ليوم ليلى وتأييدهم وشهادتهم لما يقع عليها من ظلم – أبرزهم "مختار العزيزي" و"عمرو عزت" – إلا أن البعض الآخر انتقد اليوم بشدة ومن منطلقات مختلفة.

مثلا انتقده "طنطاوي" لأنه جلب الصراعات الأرضية المفتعلة إلى ساحة افتراضية حرة – المدونات- تتسم بتوافق ما، خاصة في النضال ضد سياسات الحكومة ومن أجل حياة أفضل للمصريين جميعا. والحقيقة أن هذا النقد يتجاهل نقطة أساسية، فاشتراك أكثر من سبعين مدونة في "كلنا ليلى" يدل على وجود شعور حقيقي بالظلم وأننا لا نقف على أرض مستوية في الدفاع عن مصالح الوطن. فالصمت وتجاهل هذه المشاكل لا يحلها، وإنما فقط يجعلها في إطار المسكوت عنه الذي ينتظر لحظة انفجار ليعلن عن نفسه. بالإضافة لذلك فقد أكدنا على صفحة "كلنا ليلى" أن مدوناتنا لن تصبح فجأة أحادية التوجه تهتم فقط بالتنبيه للظلم الواقع علينا كإناث، ولكن ستستمر دائما في نقد الأوضاع السلبية المختلفة في المجتمع.

أما "أبو يوسف" مثلا فانتقد اليوم انطلاقا من مبادئ "نبوية موسى" ونظرتها لتحرير النساء وعملهن، وكيف أنه أولى لهن لو تحققت لهن الكفاية أن يجلسن في بيوتهن. ومشكلة نقد "أبو يوسف" أنه تبنى مرجعية لم نتبنَّها نحن، وبالتالي لا نرى ضرورة إطلاقا لأن نلتزم بها. هذا بالإضافة إلى اختلاف السياق الذي عاشت فيه "نبوية موسى" - في أوائل القرن العشرين - عن واقعنا الذي نتحدث عنه. فما طالبت به كان بالفعل قفزة طبقا لمقاييس عصرها، ولكن بفضل جهودها وجهود كثيرين قبلها وبعدها استطاعت النساء اكتساب الكثير من الحقوق الغائبة والتي نسعى للبناء عليها وليس النكوص عنها.

وبجانب بعض محاولات التسفيه والسخرية، جاءت بعض الانتقادات من منظور ديني ضيق يصر على احتكار الحقيقة وعلى تبني رؤية واحدة له. وقد أصرت هذه الدعاوى على ربطنا برموز أخرى كإقبال بركة ونوال السعداوي، وعلى وصف ما كتبناه بأنه حالات شاذة ولا تمثل أغلبية في المجتمع. ولكن لم يخل الأمر من نقد بناء نبهنا لضرورة توضيح مشاكلنا ومطالبنا بشكل أكثر تحديدا، وحذرنا من الوقوع في فخ الشكوى من الأوضاع الحالية والفضفضة حولها دون الوصول لحلول مقترحة.

والحقيقة أن الهجوم على "كلنا ليلى" أصاب بعضنا بالإحباط برغم توقعنا له، فنحن نعلم جيدا أن الحديث عن حقوق المرأة موضوع شائك لأنه غالبا ما يفسر على أنه هجوم على الرجل – وليس المجتمع ككل. كذلك بدء الحملة بأصوات نسائية فقط قد يثير حفيظة البعض على أنه إقصاء للرجال من هذه المساحة. ولكن كان الرهان على مصداقيتنا كمدونات التي اكتسبناها من التدوين في مواضيع عديدة سواء سياسية أو اجتماعية واشتراكنا في فعاليات أخرى خاصة بالتدوين. كان الرهان على أن أصواتنا مجتمعة ستنجح في إثبات وجود مشكلة حقيقية غير مفتعلة وعرضها على الوسط الذي نطرح فيه النقاش، حيث أنه ساحة مفتوحة للحوار الحر يتطلع من فيها لتغيير المجتمع للأفضل في مجالات الحرية والثقافة. وبالفعل تحقق العديد من أهداف الحملة، كزيادة الوعي بمشاكلنا العادية التي نواجهها بشكل يومي وفتح حوار على المدونات عن هذه المشاكل. ولكن ككل المبادرات التي تهدف لتغيير طريقة تفكير وثقافة مجتمع تحتاج "كلنا ليلى" لصبر ونفس طويل وتكرار للتجربة مع تنظيم المناقشات والتدوينات، بحيث تتناول في كل مرة مشكلة معينة أو محورا منفردا مما سبق، ليتم عرضها بزوايا مختلفة وإجراء نقاش مستفيض حولها والخروج باقتراحات وحلول لها.

كذلك يجب أن نحسم ما بدأ بيننا من نقاش حول ما إذا كنا نريد أن تظل "كلنا ليلى" كأيقونة معبرة عن يوم لمشاكل النساء على المدونات، بما اكتسبته من دلالات ومعانٍ، أم تتغير لتشمل رغبة في أن نصبح كلنا إنسانا واحدا يتمتع بحقوق تحترم فرديته وحريته وعقله أيا كان جنسه. وهل يجب أن يتغير اسم "ليلى" الأنثوي لتصبح الدعوة عامة تشمل جميع المصريين؟ أم يقبل أي مصري رفع لافتة "كلنا ليلى" كرمز لمواجهة ازدواجية المجتمع وتعرية نفاقه وكيله بمكيالين في كل ما يتعلق بالحفاظ على علاقات السلطة القائمة في المجتمع؟
منقول عن موقع البوصلة
بقلم: مريم النقر
إرسال تعليق
Search
Menu
Theme
Share
Additional JS